عندما يكون العقل السليم في الجسم غير السليم

صحيفة المدينة

عندما يكون العقل السليم في الجسم غير السليم

2022-01-18    530

منذ أكثر من ألفي عام قال الشاعر الروماني "جوفينال": [إن العقل السليم في الجسم السليم]، ولكن قراءة حياة بعض العباقرة قد تخالف هذه المقولة، فالكثير منهم لم يكونوا بأجساد معافاة تماماً. وعلى مرِّ التاريخ البشري، لم تكن الإعاقةُ الجسديةُ عائقاً دون التميّزِ والإبداعِ، وتقديم خدماتٍ جليلة للإنسانيةِ، بل زادت من الإصرار والتحدي لتعطي لأصحابها تميزاً وتفوقاً، فهناك الكثير من الشخصيات ممن أُصيبوا بأنواع من الإعاقات، ولكنهم وضعوا بصمتهم في مسيرة الفكر والحضارة الإنسانية: منهم الشيخ (عبد الله بن حميد) -رحمه الله-، الذي نشأ مكفوف البصر. تقلد سلك القضاء في عهد الملك عبد العزيز، واختاره الملك فيصل رئيساً للإشراف الديني على المسجد الحرام. في عام(1395هـ)، عيّنه الملك خالد رئيساً للمجلس الأعلى للقضاء، وعضواً في هيئة كبار العلماء، ورئيساً للمجمع الفقهي، وعضواً في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي. عُرف بسمعته العطرة، والحسنة. قال عنه الملك عبد العزيز مقولته المشهورة: (لو كنت جاعلاً القضاء والإمارة في يد رجل واحد لكان ذلك هو الشيخ عبد الله بن حميد). ومنهم الرسام والفنان الفرنسي بيير (أوجست رينوار) الذي عاش في الفترة (1840م-1919م)، فبالرغم من إصابته بالروماتزم الشديد لدرجة أنه أصبح يمشي على عكاز ولا يستطيع أن يمسك شياً بأصابعه، كان غزير الإنتاج وقام برسم عدد كبير من اللوحات حتى أن عدد لوحاته تجاوز الألف لوحة، وكان حلم حياته أن يرى لوحاته متواجدة في متحف اللوفر، وقد تحقق هذا الأمر. توفى عن عمر يناهز الثامنة والسبعين عاما تاركاً خلفه إرثاً كبيراً من اللوحات الرائعة، لتنتهي بذلك حياة رائد من رواد المدرسة الانطباعية في فن الرسم. وكذلك الموسيقار الألماني الشهير (فان بيتهوفن) المولود في عام(1770م)، فبالرغم من إصابته بالصمم تمكن من تأليف القطع الموسيقية المختلفة، التي رسخت سمعته بوصفه موسيقياً بارعاً. وفي عام 1801م، نشر "الرباعيات الوترية الستة" والتي ضاهت في براعتها وجمالها مؤلفات موزارت وهايدن، ومن ثم ألف باليه "مخلوقات بروميثيوس"، التي تمتعت بشعبية جارفة. ومن بعدها ألف السيمفونية الثالثة التي تعتبر أعظم أعماله الموسيقية وأكثرها أصالة. ومنهم (ستيفن وندر)، الكفيف الأشهر في الولايات المتحدة الأمريكية، ولد كفيفاً، لم يستسلم لإعاقته بل صار ستفن وندر من أكثر المطربين المحبوبين في العالم فهو شاعر ومغني وملحن وسجل له أكثر من (30) أغنية كأفضل أغاني في امريكا. فاز ب (25) جائزة وهو الفنان الوحيد الذي فاز بهذا العدد من الجوائز، كما يصنف من بين الفنانين الأكثر مبيعاً في التاريخ. وعند ذكر عظماء ومشاهير تحدوا الإعاقة، لابد من ذكر الأمريكية (هيلين كيلر)، التي أتقنت أربعَ لغات، وحصلت على الدكتوراه، وألّفت كتباً، وأصبحت واحدة من بين الشخصيات الأكثر تأثيرا في القرن العشرين ورمزاً من رموز المدافعين عن حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، وهي التي فقدت سمعَها وبصرها في السنة الأولى من عُمُرِها! وأخيراً عالم الرياضيات الأمريكي الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (جون ناش) الذي تغلب على مرضه العقلي وتمكن بعبقرية من الوصول إلى العديد من النتائج البحثية التي جعلته واحداً من عباقرة عالم الرياضيات ليستحق بجدارة الحصول على جائزة نوبل. هذه كلُّها نماذجُ واقعية، لم يكونوا بأجساد معافاة تماماً، بل نماذج من ذوي الاحتياجات الخاصة، غير أن كلاً منها تؤكّد أن الإعاقة من حيث هي لا تحوِّلُ الإنسانَ إلى كائنٍ سلبيٍّ، وإنما الذي يفعلُ ذلك هو استسلامُهُ وانهزامُهُ الداخليُّ.


مشاركة :